كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الإشارة تتناسق مع علاج السورة لموضوع الرزق والمال، لتخليص القلب من أوهاق الشح وأثقال البخل وعوائق الانشغال بالرزق. وتمهد للمقطع التالي في السورة، في الوقت الذي تكمل سمة المتقين وصورة المحسنين.
{وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون}..
وهي لفتة إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس؛ وتوجيه إلى السماء في شأن الرزق المكتوب والحظ المقدور. تختم بقسم عظيم. قسم الله- سبحانه- بذاته بوصفه: {رب السماء والأرض} اللتين ورد ذكرهما في هذا المقطع. على أن هذا القول الذي جاءهم من عنده حق يقين..
{وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون}؟..
هذا الكوكب الذي نعيش عليه معرض هائل لآيات الله وعجائب صنعته. معرض لم نستجل منه حتى اللحظة إلا القليل من بدائعه. ونحن نكشف في كل يوم جديدًا منه، ونطّلع منه على جديد.. ومثل هذا المعرض، معرض آخر مكنون فينا نحن.. النفس الإنسانية.. الخفية الأسرار، التي تنطوي فيها أسرار هذا الوجود كله، لا أسرار الكوكب الأرضي وحده!
وإلى هذين المعرضين الهائلين تشير الآيتان تلك الإشارة المختصرة، التي تفتح هذين المعرضين على مصاريعهما لمن يريد أن يبصر، ولمن يريد أن يستيقن، ولمن يريد أن يملأ حياته حتى تفيض بالمتعة والمسرة، وبالعبرة الحية، وبالرصيد القيم من المعرفة الحقة، التي ترفع القلوب وتضاعف الأعمار!
والنصوص القرآنية معدة للعمل في جميع الأوساط والبيئات والظروف والأحوال.
قادرة على إعطاء رصيد معين لكل نفس ولكل عقل ولكل إدراك. كل بقدر ما يتقبل منها وما يطيق.
وكلما ارتقى الإنسان في المعرفة، واتسعت مداركه، وزادت معلوماته، وكثرت تجاربه، واطلع على أسرار الكون وأسرار النفس.. ارتقى نصيبه، وتضخم رصيده، وتنوع زاده الذي يتلقاه من نصوص القرآن.. هذا الكتاب الذي (لا تنفد عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد) كما يقول عنه النبي الذي تلقاه واستوعب أسراره، وعاش بها. يقول عن تجربة حية وجدها في نفسه فعبر عنها ذلك التعبير- صلوات الله وسلامه عليه-.
ولقد وجد الذين سمعوا هذا القرآن أول مرة من آيات الله في الأرض وآياته في النفس، نصيبهم، وتسلموا رصيدهم، وفق معارفهم وتجاربهم وإشراقات نفوسهم. ووجد كذلك كل جيل أتى بعدهم نصيبًا يناسب ما تفتح له من أنواع العلوم والمعارف والتجارب. ونجد نحن نصيبنا وفق ما اتسع لنا من رقعة العلم والمعرفة والتجريب، وما تكشف لنا من أسرار لا تنفد في هذا الكون الكبير. وستجد الأجيال بعدنا نصيبها مدخرًا لها من الآيات التي لم تكشف لنا بعد في الأرض والنفس. ويبقى هذان المعرضان الإلهيان الهائلان حافلين بكل عجيب وجديد إلى آخر الزمان.
هذه الأرض. هذا الكوكب المعد للحياة، المجهز لاستقبالها وحضانتها بكل خصائصه، على نحو يكاد يكون فريدًا في المعروف لنا في محيط هذا الكون الهائل، الحافل بالنجوم الثوابت والكواكب السيارة. التي يبلغ عدد المعروف منها فقط- والمعروف نسبة لا تكاد تذكر في حقيقة الكون- مئات الملايين من المجرات التي تحوي الواحدة منها مئات الملايين من النجوم. والكواكب هي توابع هذه النجوم!
ومع هذه الأعداد التي لا تحصى فإن الأرض تكاد تنفرد باستعدادها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته. ولو اختلت خصيصة واحدة من خصائص الأرض الكثيرة جدًا لتعذر وجود هذا النوع من الحياة عليها.. لو تغير حجمها صغرًا أو كبرًا، لو تغير وضعها من الشمس قربًا أو بعدًا. لو تغير حجم الشمس ودرجة حرارتها. لو تغير ميل الأرض على محورها هنا أو هنا. لو تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ. لو تغير حجم القمر- تابعها- أو بعده عنها. لو تغيرت نسبة الماء واليابس فيها زيادة أو نقصًا. لو. لو. لو. إلى آلاف الموافقات المعروفة والمجهولة التي تتحكم في صلاحيتها لاستقبال هذا النوع من الحياة وحضانته.
أليست هذه آية أو آيات معروضة في هذا المعرض الإلهي؟
ثم. هذه الأقوات المذخورة في الأرض للأحياء التي تسكنها. تسكن سطحها، أو تسبح في أجوائها، أو تمخر ماءها، أو تختبئ في مغاورها وكهوفها، أو تختفي في مساربها وأجوافها.. هذه الأقوات الجاهزة المركبة والبسيطة والقابلة للوجود في شتى الأشكال والأنواع لتلبي حاجة هذه الأحياء التي لا تحصى، ولا تحصى أنواع غذائها أيضًا.
. هذه الأقوات الكامنة في جوفها، والساربة في مجاريها، والسابحة في هوائها، والنابتة على سطحها، والقادمة إليها من الشمس ومن عوالم أخرى بعضها معروف وبعضها مجهول، ولكنها تتدفق وفق تدبير المشيئة المدبرة التي خلقت هذا المحضن لهذا النوع من الحياة، وجهزته بكل ما يلزم للأنواع الكثيرة التي لا تحصى.
وتنوع مشاهد هذه الأرض ومناظرها، حيثما امتد الطرف، وحيثما تنقلت القدم. وعجائب هذه المشاهد التي لا تنفد: من وهاد وبطاح، ووديان وجبال؛ وبحار وبحيرات، وأنهار وغدران. وقطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان.. وكل مشهد من هذه المشاهد تتناوله يد الإبداع والتغيير الدائبة التي لا تفتر عن الإبداع والتغيير. ويمر به الإنسان وهو ممحل فإذا هو مشهد، ويمر به وهو ممرع فإذا هو مشهد آخر. ويراه وهو نبت خضر فإذا هو مشهد، ويراه إبان الحصاد حين يهيج ويصفر فإذا هو مشهد آخر. وهو هو لم ينتقل باعًا ولا ذراعًا في المكان!
والخلائق التي تعمر هذه الأرض من الأحياء. نباتًا وحيوانًا. وطيرًا وسمكًا، وزواحف وحشرات.. بله الإنسان فالقرآن يفرده بنص خاص.. هذه الخلائق التي لم يعرف عدد أنواعها وأجناسها بعد- فضلًا على إحصاء أعدادها وأفرادها وهو مستحيل- وكل خليقة منها أمة! وكل فرد منها عجيبة. كل حيوان. كل طائر. كل زاحفة. كل حشرة. كل دودة. كل نبتة: لا بل كل جناح في يرقة، وكل ورقة في زهرة، وكل قصبة في ورقة! في ذلك المعرض الإلهي العجيب الذي لا تنقضي عجائبه.
ولو مضى الإنسان- بل لو مضى الأناسي جميعًا- يتأملون هكذا ويشيرون مجرد إشارة إلى ما في الأرض من عجائب، وإلى ما تشير إليه هذه العجائب من آيات، ما انتهى لهم قول ولا إشارة. والنص القرآني ما يزيد على أن يوقظ القلب البشري للتأمل والتدبر، واستجلاء العجائب في هذا المعرض الهائل، طوال الرحلة على هذا الكوكب؛ والمتعة بما في هذا الاستجلاء من مسرة طوال الرحلة.
غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع، إلا القلب العامر باليقين.
{وفي الأرض آيات للموقنين}.. فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك؛ وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة، وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع. وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء؛ لا تنطق للقلب بشيء؛ ولا تتجاوب معه بشيء. وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب. لا يحسون فيه حياة، ولا يفقهون له لغة؛ لأن لمسة اليقين لم تحي قلوبهم، ولم تبث الحياة فيما حولهم! وقد يكون منهم علماء.
{يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا}.
أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم، فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين.. وصدق الله العظيم.
ثم العجيبة الأخرى التي تدب على هذه الأرض:
{وفي أنفسكم أفلا تبصرون}..
وهذا المخلوق الإنساني هو العجيبة الكبرى في هذه الأرض. ولكنه يغفل عن قيمته، وعن أسراره الكامنة في كيانه، حين يغفل قلبه عن الإيمان وحين يحرم نعمة اليقين.
إنه عجيبة في تكوينه الجسماني: في أسرار هذا الجسد. عجيبة في تكوينه الروحي: في أسرار هذه النفس. وهو عجيبة في ظاهره وعجيبة في باطنه. وهو يمثل عناصر هذا الكون وأسراره وخفاياه:
وتزعم أنك جرم صغير ** وفيك انطوى العالم الأكبر

وحيثما وقف الإنسان يتأمل عجائب نفسه التقى بأسرار تدهش وتحير. تكوين أعضائه وتوزيعها. وظائفها وطريقة أدائها لهذه الوظائف. عملية الهضم والامتصاص. عملية التنفس والاحتراق. دورة الدم في القلب والعروق. الجهاز العصبي وتركيبه وإدارته للجسم. الغدد وإفرازها وعلاقتها بنمو الجسد ونشاطه وانتظامه. تناسق هذه الأجهزة كلها وتعاونها، وتجاوبها الكامل الدقيق. وكل عجيبة من هذه تنطوي تحتها عجائب. وفي كل عضو وكل جزء من عضو خارقة تحير الألباب.
وأسرار روحه وطاقاتها المعلومة والمجهولة.. إدراكه للمدركات وطريقة إدراكها وحفظها وتذكرها. هذه المعلومات والصور المختزنة. أين؟ وكيف؟ هذه الصور والرؤى والمشاهد كيف انطبعت؟ وأين؟ وكيف تُستدعى فتجيء.. وذلك في الجانب المعلوم من هذه القوى. فأما المجهول منها فهو أكبر وأكثر. تظهر آثاره بين الحين والحين في لمسات وإشراقات تدل على ما وراء الظاهر من المغيب المجهول.
ثم أسرار هذا الجنس في توالده وتوارثه. خلية واحدة تحمل كل رصيد الجنس البشري من الخصائص؛ وتحمل معها خصائص الأبوين والأجداد القريبين. فأين تكمن هذه الخصائص في تلك الخلية الصغيرة؟ وكيف تهتدي بذاتها إلى طريقها التاريخي الطويل، فتمثله أدق تمثيل، وتنتهي إلى إعادة هذا الكائن الإنساني العجيب؟!
وإن وقفه أمام اللحظة التي يبدأ فيها الجنين حياته على الأرض، وهو ينفصل عن أمه ويعتمد على نفسه، ويؤذن لقلبه ورئتيه بالحركة لبدء الحياة. إن وقفة أمام هذه اللحظة وأمام هذه الحركة لتدهش العقول وتحير الألباب، وتغمر النفس بفيض من الدهش وفيض من الإيمان، لا يقف له قلب ولا يتماسك له وجدان!
وإن وقفة أخرى أمام اللحظة التي يتحرك فيها لسان الوليد لينطق بهذه الحروف والمقاطع والكلمات ثم بالعبارات. بل أمام النطق ذاته. نطق هذا اللسان. وتصويت تلك الحنجرة. إنها عجيبة. عجيبة تفقد وقعها لأنها تمر بنا كثيرًا. ولكن الوقوف أمامها لحظة في تدبر يجدد وقعها. إنها خارقة. خارقة مذهلة تنبئ عن القدرة التي لا تكون إلا لله.
وكل جزئية في حياة هذا المخلوق تقفنا أمام خارقة من الخوارق، لا ينقضي منها العجب؛ {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}..
وكل فرد من هذا الجنس عالم وحده.
ومرآة ينعكس من خلالها هذا الوجود كله في صورة خاصة لا تتكرر أبدًا على مدار الدهور. ولا نظير له بين أبناء جنسه جميعًا لا في شكله وملامحه، ولا في عقله ومداركه، ولا في روحه ومشاعره. ولا في صورة الكون كما هي في حسه وتصوره. ففي هذا المتحف الإلهي العجيب الذي يضم ملايين الملايين، كل فرد نموذج خاص، وطبعة فريدة لا تتكرر. يمر من خلالها الوجود كله في صورة كذلك لا تتكرر. كما لا توجد بصمة أصابع مماثلة لبصمة أصابع أخرى في هذه الأرض في جميع العصور!
وكثير من عجائب الجنس البشري مكشوفة للبصر، تراه العيون: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}: وما تراه العيون من عجائبه يشير إلى المغيب المكنون.
وهذه العجائب لا يحصرها كتاب. فالمعلوم المكشوف منها يحتاج تفصيله إلى مجلدات. والمجهول منها ما يزال أكثر من المعلوم، والقرآن لا يحصيها ولا يحصرها. ولكنه يلمس القلب هذه اللمسة ليستيقظ لهذا المتحف الإلهي المعروض للأبصار والبصائر. وليقضي رحلته على هذا الكوكب في ملاحظة وتدبر، وفي متاع رفيع بتأمل هذا الخلق العجيب، الكامن في ذات نفسه وهو عنه غافل مشغول.
وإنها للحظات ممتعة حقًا تلك التي يقضيها الإنسان يتأمل وجوه الخلق وسماتهم وحركاتهم وعاداتهم، بعين العابد السائح الذي يجول في متحف من إبداع أحسن الخالقين. فكيف بمن يقضي عمره كله في هذا المتاع الرفيع؟
إن القرآن بمثل هذه اللمسة يخلق الإنسان خلقًا جديدًا، بحس جديد؛ ويمتعه بحياة جديدة، ويهبه متاعًا لا نظير له في كل ما يتصوره في الأرض من متاع.
وعلى هذا النحو الرفيع من التأمل والإدراك يريد القرآن الناس. والإيمان هو الذي يمنح القلب البشري هذا الزاد، وهو الذي يهيئ له هذا المتاع العلوي. وهو بعد في الأرض في عالم الطين!
وبعد فقد كانت اللفتة الأولى إلى معرض الأرض؛ وكانت اللفتة الثانية إلى معرض النفس. ثم تلتهما في السورة لفتة إلى معرض الغيب العلوي المطوي، حيث الرزق المقسوم والحظ المرسوم:
{وفي السماء رزقكم وما توعدون}..
وهي لفتة عجيبة. فمع أن أسباب الرزق الظاهرة قائمة في الأرض، حيث يكد فيها الإنسان ويجهد، وينتظر من ورائها الرزق والنصيب. فإن القرآن يرد بصر الإنسان ونفسه إلى السماء. إلى الغيب. إلى الله. ليتطلع هنالك إلى الرزق المقسوم والحظ المرسوم. أما الأرض وما فيها من أسباب الرزق الظاهرة، فهي آيات للموقنين. آيات ترد القلب إلى الله ليتطلع إلى الرزق من فضله؛ ويتخلص من أثقال الأرض وأوهاق الحرص، والأسباب الظاهرة للرزق، فلا يدعها تحول بينه وبين التطلع إلى المصدر الأول الذي أنشأ هذه الأسباب.
والقلب المؤمن يدرك هذه اللفتة على حقيقتها؛ ويفهمها على وضعها؛ ويعرف أن المقصود بها ليس هو إهمال الأرض وأسبابها. فهو مكلف بالخلافة فيها وتعميرها.
إنما المقصود هو ألا يعلق نفسه بها، وألا يغفل عن الله في عمارتها. ليعمل في الأرض وهو يتطلع إلى السماء. وليأخذ بالأسباب وهو يستيقن أنها ليست هي التي ترزقه، فرزقه مقدر في السماء، وما وعده الله لابد أن يكون.
بذلك ينطلق قلبه من إسار الأسباب الظاهرة في الأرض؛ بل يرف بأجنحة من هذه الأسباب إلى ملكوت السماوات. حين يرى في الأسباب آيات تدله على خالق الأسباب ويعيش موصولًا قلبه بالسماء. وقدماه ثابتتان على الأرض. فهكذا يريد الله لهذا الإنسان. هكذا يريد الله لذلك المخلوق الذي جبله من طين ونفخ فيه من روحه فإذا هو مفضل على كثير من العالمين.
والإيمان هو الوسيلة لتحقيق ذلك الوضع الذي يكون فيه الإنسان في أفضل حالاته. لأنه يكون حينئذ. في الحالة التي أنشأه الله لها. فطرة الله التي فطر الناس عليها. قبل أن يتناولها الفساد والانحراف..
وبعد هذه اللمسات الثلاث في الأرض والنفس والسماء. يقسم الله سبحانه بذاته العلية على صدق هذا الحديث كله:
{فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون}..
وكونهم ينطقون، حقيقة بين أيديهم، لا يجادلون فيها ولا يمارون، ولا يرتابون فيها ولا يخرصون.. وكذلك هذا الحديث كله. والله أصدق القائلين.
وقد روى الأصمعي نادرة ذكرها الزمخشري في الكشاف، ونسوقها نحن لطرافتها- في تحفظ من جانب الرواية!- قال:
(أقبلت من جامع البصرة، فطلع أعرابي على قعود له. فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال: اتل عليّ. فتلوت: {والذاريات}.. فلما بلغت قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} قال: حسبك! فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر؛ وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى! فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف؛ فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق. فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر. فسلم عليَّ واستقرأ السورة. فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: {فورب السماء والأرض إنه لحق}.. فصاح قال: يا سبحان الله. من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين! قالها ثلاثًا وخرجت معها نفسه)..